أزمة تسويق السيارات

يعاني المستهلك في السعودية من تدني خدمات وسوء تعامل شركات ووكالات السيارات. وما اجتماع وزير التجارة السابق عام 2013م مع عدد من مصنعي السيارات في الولايات المتحدة الأمريكية إلا دليل على عِظم المشكلة. لا يقتصر الأمر على السيارات الأمريكية، بل كشفت استبانة أطلقتها وزارة التجارة عن مستوى متدني لرضا العميل عن خدمات وكالات السيارات في السعودية وشملت أشهر العلامات التجارية. على الرغم أن الاستبانة أشارت إلى عدم رضا العملاء عن العديد من الوكالات إلا أن مبيعاتها تتصدر السوق السعودي. المتوقع أن تكون العلاقة بين رضا العميل وأرقام المبيعات علاقة طردية فكلما زاد مستوى رضا العميل زادت المبيعات إلا عندنا في السعودية! فما سبب استياء العميل من وكالات السيارات؟ ولماذا يستمر في الشراء من تلك الوكالات إذًا؟

بتحليلي الشخصي أعتقد أولًا أن السوق السعودي سوق واعد لمعظم السلع والخدمات فالقوة الشرائية فيه تضاهي غيرها في المنطقة. لذا يُقبل الكثير على الشراء رغم تدني مستوى الخدمة والجودة. ويتفاوت أثر القوة الشرائية من سلعة لأخرى إلا أن أثرها واضح في سوق السيارات. فمثلًا يتكرر إقفال البلدية لمطعم شهير لأسباب صحية قد تتعلق بالعاملين أو الأطعمة المستخدمة. وعلى الرغم من وضع ملصق على أبواب المطعم من الخارج وانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن فور عودة المطعم للعمل يعود الزحام عليه وكأن شيء لم يكن. كذلك الحال في أسواق السيارات، تجد الكثيرون يتذمرون من خدمة وكيل ما، وبالرغم من ذلك تجد سيارات تلك الشركة في كل مكان.

السبب الثاني في اعتقادي أن العديد من الوكلاء والأسماء التجارية اللامعة في المملكة نشأت في بداياتها على مفهوم تجارة التوريد. كذلك كان حال سوق السيارات، فمسؤول المبيعات الإقليمي التابع للشركة الأم همه -في الغالب- تحقيق هدف مبيعات محدد. فعندما يكتشف أن جهة حكومية واحدة في السعودية تطرح مناقصة لكمية من منتجه كفيلة بأن تغطي هدف مبيعاته للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عندها لا يهم مستوى الخدمة ولا العملاء ولا غيره في السعودية. ويصبح الهم الوحيد هو الفوز بتلك المناقصة. حتى لو تتطلب الأمر التحالف مع مكتب توريدات صغير اعتاد على استيراد الإلكترونيات أو الصابون أو الرز أو غيره، ليس هذا فحسب بل أن هذه الصفقة كفيلة بأن تؤهل ذلك المكتب الصغير ليكون وكيلًا لتلك الماركة في السعودية. ومجال تجارة السيارات ليس ببعيد، فلم يؤصل فيه رضا العميل ومر بهذا “التطور التجاري” إن صح تسميته.

السبب الثالث هو في رأيي ضعف البديل. حتى نهاية التسعينيات الميلادية والسيارات اليابانية والأمريكية كانت الخيار الأنسب أو ربما الأوفر في السوق السعودي، في حين تعثرت السيارات الأوروبية في مناسبتها للسوق السعودي ومناخه الحار. كذلك فارق السعر، فالسيارات الأوروبية كانت أغلى وخدماتها ضعيفة جدًا، إضافة إلى تذبذب أسعار العملات الأوروبية آن ذاك. وحتى بعد تلك الحقبة، انحصرت معظم السيارات الأوروبية للطبقة العليا في السوق. أما السيارات الكورية فلم تحظى بثقة العميل وظهورها كان على استحياء في ذلك الوقت كما هو حال السيارات الصينية هذه الأيام. لذا بقيت السيارات اليابانية والأمريكية الأقرب للمستهلك السعودي.

السبب الرابع هو حجم وقوة الأسواق المحلية للشركات المصنّعة. فمثلًا حجم المبيعات في السوق الأمريكية تجعل مصنّعي السيارات هناك يحرصون على تلبية رغباته أكثر من أي سوق في العالم. حتى أن بعض الشركات غير الأمريكية مثل تويوتا وفولكس-فاجن أسست مصانع لها في القارة الأمريكية لتلبية رغبات ذلك السوق. أما في السعودية فبعض الوكلاء لا يستطيع حتى أن يطلب مواصفات إضافية أو كماليات تلبي رغبات عملائه، لأن المصنّع لن يوفر أي شيء من شأنه أن يعيق أو يؤخر مبيعاته في الأسواق الضخمة.

في زيارتي لإحدى وكالات السيارات الأمريكية، سألت البائع إذا بإمكاني طلب إحدى السيارات بمواصفات معينة وأنني على استعداد لانتظار شحنها. وكان رده أن ذلك غير ممكن، حتى أنه لا يعلم متى وصول الدفعة القادمة من تلك السيارة أو مواصفاتها إلا قبل شهر فقط من تاريخ وصولها، ليبدأ الوكيل بتسويق وبيع ما “أُسقط في يده” إن صح التعبير. هذا التردي والإحباط بين الوكيل والشركة المصنعّة يمتد إلى العميل وإلى خدمات ما بعد البيع كتردي الصيانة وتدريب الأيدي العاملة وتوفر قطع الغيار والضمان والاستدعاءات.

والسبب الخامس هو ضعف الوكيل تسويقيًا. فإضافة إلى ضعف الوكيل أمام الشركة المصنعة وثقافة الاستيراد والتوريد السائدة في السوق، فالقائمين على رسم الخطط التسويقية والقياديين في وكالات السيارات تركيزهم هو إدارة وتصريف مخزون من سيارات وقطع غيار دون النظر في التغيرات داخل السوق أو رغبات العملاء. وهذا يعزز التصور الخاطئ عن السوق السعودي أمام الشركات الأجنبية. كما أن كثير من موظفي المبيعات غير ملمين بمعلومات السيارة ويقتصر دورهم في إغلاق الصفقة وإتمام الإجراءات.

أقسام الصيانة وقطع الغيار لدى أكثر الوكالات، لم تعد تقوم بدورها كرافد تسويقي لماركة السيارة ووسيلة تدعم قرار الشراء لدى العميل، أو رفع مستوى ثقته ومن ثم ولائه للماركة، بل على العكس، أصبحت السيارة وسيلة لاستدراج العميل نحو فخ التكاليف الإضافية ووسيلة لجني الأرباح من أعمال صيانة يقوم بها أيدي غير ماهرة وقطع غيار مبالغ في أسعارها. فلا يهم لو كلف ذلك خسارة العميل. المواعيد الطويلة، وضعف نزاهة البعض في تقديم خدمات الصيانة، كلها عوامل هدم للعلاقة بين العميل والماركة وسبب لانتقال العميل إلى ماركة أخرى.

أحد القصص التي تبرهن ضعف تسويق السيارات في المنطقة ذكرها لي أحد الأصدقاء، وهي أن شركة سيارات أمريكية عملاقة أرادت عمل دراسة شاملة لقياس مدى اهتمام العميل السعودي ببعض المواصفات، وخصصت مبلغ ضخم لعمل تلك الدراسة داخل السوق السعودي وبدون علم الوكلاء المحليين. وتم التواصل مع مكتبها الإقليمي الذي بدوره أوكل المهمة لأحد موظفيه للتعاقد مع شركة استشارية. لكن الموظف تبنى المشروع بنفسه وسافر إلى السعودية وتعاقد مع عدد من طلاب الجامعات لملء الاستبانات بمقابل مالي زهيد لكل استبانة. لم يكلف أكثر من 0.5% من المبلغ الذي خصصته الشركة الأم. فإذا كان استقاء معلومات سوق السيارات لدينا يتم بهذه الطريقة -ناهيك عن الإشكال الأخلاقي- فلا عجب من مستوى الخدمة فيه.

وأخيرًا ضعف موقف العميل السعودي. فرغم قوته الشرائية إلا إن ضعف الأنظمة في السوق تجعله هدف سهل، وعندما تقع مشكلة لا يجد جدية كافية من بعض الجهات الرسمية لحمايته. تهتم تلك الجهات بأمور عامة كأن تكون السيارة مطابقة للمواصفات الخليجية أو تحتوي على طفاية حريق، وتجد جهة أخرى همها إعادة نشر إعلانات استدعاءات الشركات المصنّعة وتتلقى الشكاوى والذي أحيانًا يزيد من تعقيد الأمور. فلا يبقى أمام العميل إلا القضاء ليبت في مشكلته. فلو كان هناك لوائح تنظيمية خاصة بتأهيل التاجر لكي يصبح وكيلًا أو حتى موزعًا للسيارات في السعودية لوجد المستهلك مستوى احترافي عند البيع و بعده.

لن يبقى حال السوق كما هو، فالعميل يطّلع على الجديد ويرى مميزات السيارات ويقارن فروقاتها وهو في بيته وقبل نزولها في الأسواق. سوق السيارات صاعد والتغيير فيه سيصبح أسرع مع تطور التقنية واندماجها فيه. إضافة إلى ظهور شريحة النساء كعميلات والتي ستختلف رغباتهن عن الشريحة السائدة. عميل اليوم يسأل عن جوانب السلامة والاقتصاد والتقنية والرفاهية في السيارة، في حين كان يسأل فقط عن توفر فتحة السقف قبل 15 سنة أو عن توفر لون غير الأبيض قبل 25 سنة. ستشهد أسواق السيارات تغيرات عديدة، وفي فترة قصيرة يمكن لأي وكيل أن يتميّز عن غيره باهتمامه بجوانب معينة. ففي سوق يعتمد على الصفقات الكبيرة ويكاد يخلو من ثقة المستهلك، سيصبح سر النجاح فيه مقترن بكفاءة الأداء وكسب الولاء.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s