لفت انتباهي عنوان “أنسنة المدن” والذي عُقد حوله مؤتمر دولي في إحدى الجامعات السعودية منذ أشهر. وبعد البحث وجدت أنها مبادرة لخلق بيئة حضارية تستوعب تطلعات سكان المدن وتعمل على المحافظة عليهم من خلال إبراز الجانب الإنساني في المدينة. إحدى تلك المبادرات حددت عدد من القِيم منها: التعاطف، والاستدامة، والألفة، والعيش المشترك، والتنقل، والراحة، والجمال، والتضامن، والاحترام، وغيرها. تفعيل هذه القيم من شأنه أن يجعل من العيش داخل المدن أمر مُحبب وليس اضطراريًا كما هو في كثير من الأحيان.
أثناء القراءة عن أنسنة المدن، بدرت لي أفكار مشابهة يمكن تطبيقها على بيئات العمل، فكما أن وتيرة العيش في المدينة قد تتدهور من روتينية مملة إلى موحشة وأشبه بغابة خرسانية، كذلك الأمر في مكان العمل. بيئة العمل الطاردة للموظفين هي بيئة فقدت قيمها الإنسانية فلم تعد مكانًا للعمل، بل أرض صراعات. قد يبدو ذلك جليًا وأنت تمر بوجوه عابسة في الممرات، أو عندما يجد الموظف صعوبة في كسر الجمود بينه وبين زملاء جدد، الكل مهموم، لأن الشعار أصبح “نفسي نفسي” وعلى مختلف مستويات الهيكل الإداري. الكل يريد الصعود بسرعة ولا يهم ما يخلفه من خسائر أو تجاوزات. لا يستطيع كل الموظفين المجابهة واستمرار الصراعات يحثهم على التكتل والتحزب أو الهروب. تزيد خصوبة تلك البيئة ليصبح الكذب، والحسد، والتنمّر من صفاتها الطبيعية. يختلط الحابل بالنابل حتى تصبح الصفات الحسنة مُستغربة وتفسّر بسوء النيّة.
قد لا تجد بدًا إلا أن تغضب وتصرخ لتحصل على ما تريد، فالأخلاق والرقيّ لم تعد (تأكّل عيش) كما يُشاع، بل ربما تكون سمات ضعف. يتحول مكان العمل إلى مزرعة الكل يريد أن يجني أكبر قدر منها ويهرب لا أحد يكترث بمستقبلها. الكل يخوّن أو ينتظر خيانة ما، الكل يريد توثيق ما اتفق عليه الجميع، “أرسل له إيميل الآن قبل يغيّر رأيه” أحدهم يخاطب زميله بعد نهاية اجتماعهم مع مجموعة أخرى. عندما يستاء الرئيس من أمر ما، يسعى “الأذكياء اجتماعيًا” إلى استمالته وإرضاءه على حساب العمل والأخلاقيات، ثم يُكافئون ليصبحوا مثالًا يحتذى به. يتفشى الداء فيصبح الأمر هينًا مالم ينكشف أو تثار حوله مشكلة، وما يؤلم هو عندما ترى جيلًا جديدًا وقد بدأ في اكتساب تلك التصرفات اللاإنسانية –إن صح التعبير– فيظهر التأثر واضحًا. العديد من القصص تشير أن هناك بيئات عمل توشك أن تتدهور. وقد تتفاوت حدة الحالات وتكرارها من مكان إلى آخر. كل تلك الأمثلة –في نظري– نتيجة لفقدان القيم الإنسانية في مكان العمل.
أحد أهم أدوار المنشأة اجتماعيًا هو توفير بيئة عمل جيدة تحث على العطاء وتجذب الكفاءات المناسبة. كثير من المنشآت تقوم بمبادرات لتحسين بيئة العمل وبث روح الألفة داخل المنشأة لزيادة الإنتاجية والترويج لاسمها في الخارج. لكنها محاولات مشتتة، وغير مستدامة، وليست شاملة. مثال ذلك إقامة اجتماع للموظفين وعائلاتهم، أو حفلات مصغّرة لتوديع زميل، أو احتفاءً بنجاح آخر. كما أن معظم تلك الاجتماعات ينقصها أهم قيمة إنسانية وهي الصدق فترى البعض قد أُرغم على الحضور والبعض يُحجم لأنه لا يشعر بالانتماء. وباعتقادي، فإن تحقيق القيم الإنسانية في مكان العمل هو الأساس الصحيح لخلق بيئة صحيّة ومستدامة.
تفعيل القيم الإنسانية أو أنسنة أماكن العمل ضرورة لاستدامة الأعمال. أنسنة بيئة العمل ليست دعوة للتراخي والخمول، وإنما هي ثقافة تؤكد أن الكل مدعو للبذل والتنافس الشريف من خلال قيم راسخة، فلا يضيع وقت العمل بترصد أخطاء الزملاء وتلفيق القصص ونسج الأكاذيب. الاستثمار يبدأ باختيار الأشخاص المناسبين، ومن تجمعهم المصداقية في تحقيق أهداف المنشأة والقيم الإنسانية في مكان العمل، وسيظل هؤلاء يروّجون لتلك القيم طالما بقوا في المنشأة. عندما تستقطب مشعلي النيران والوحوش زاعمًا أنهم من سيتحمل ضراوة السوق وضغط العمل، فلا تستغرب عندما تتصاعد أعمدة الدخان ويزداد الحنق. بث روح التسامح والاحترام لا يحتاج إلى مناسبات، وإنما ثقافة تنتشر بجهد مستمر يبدأ من أعلى الهرم وينعكس أثره في الأسفل فورًا. تفعيل القيم الإنسانية وانتشارها في مكان العمل يحدث تلقائيًا عندما تصدق الجهود. الخلاصة أن الأمر معدي، فالبشر بطبيعتهم يتعلمون بتقليد بعضهم البعض، فإما أن تنتشر الابتسامة في مكان العمل أو أن يحيق المكر بأهله فيبدو الجميع وكأنهم في ورطة.