التنمّر المهني

عُرفت ظاهرة التنمّر (Bullying) بين الأطفال والمراهقين، خاصةً في المدارس، ولم يُسلّط عليها الضوء في مجتمعاتنا حتى وقت قريب. والتنمّر هو التسلّط، والتخويف، والإساءة المتكررة لشخص ما، واستغلال مواضع ضعفه. وما لفت انتباهي هو أن بعض المواقف المُسيئة التي يواجهها الموظف في مكان العمل تشابه إلى حد كبير تنمّر الأطفال لولا اختلاف المكان وااللأعمار. تواترت الروايات والقصص التي أسمعها عن بيئات العمل من أصدقاء وزملاء، وقفت على بعضها مباشرة، والتي تصف أفعال أقل ما يقال عنها أنها هي التنمّر بذاته. كما أنها لا تختلف كثيرًا عن تلك التي يقوم بها الأطفال والمراهقين. وهنا بدأت بالبحث عن التنمر في أماكن العمل واخترت عنوان “التنمّر المهني” تأسيًا بمقال سابق كتبته حول بيئة العمل أيضًا بعنوان “التذمّر المهني“.

لتقصي هذه الظاهرة بشكل أدق وأعمق، آثرت العودة إلى التنمّر عند الأطفال والتي تستمر حتى عمر متأخر لدى المراهق. والسؤال هنا، ما الذي يدفع أحدهم إلى هذه التصرفات المؤذية لزملائه؟ وجدت في مقالة الممثلة والناشطة “مارلو توماس” (Marlo Thomas) وعنوانها “مأساة في أوهايو: عندما ينتقم المتنمر عليه” أجوبة على هذا السؤال لعدد من الأطفال، وتفاوتت الأسباب بين مشاكل كان يواجهها أحد الأطفال في منزله، وآخر كان يسعى بتنمّره إلى أن يحظى بمكانه بين زملائه، والأخيرة قالت أنها كانت ضحيةً للتنمّر مما أغضبها كثيرًا حتى أصبحت تتنمّر هي على زميلاتها. بكل تأكيد أن هذه بعض من أسباب التنمر واللوم يقع على المتنمّرين، وأهلهم في المنزل، كذلك على أساتذتهم في المدرسة.

ما شدّني هو أن الأسباب السابقة يمكن أن نرى امتدادًا لها بين البالغين في أماكن العمل رغم فارق السن. لكن البعض رغم انخراطه في بيئة يعمل بها الكبار، يأبى إلا أن يَجْتر ما تبقّى من تصرفات طفولية يكمل بها نقصه ويحقق بها ذاته. وانعكاسًا على مقالة “مارلو توماس”، فقد يكون المتنمّر في العمل يواجه مشاكل خارجه، أو يسعى وراء منصب، أو أنه كان ضحية فيما مضى وأراد أن يلعب هو الآن دور المتنمّر.

قد يطال أذى المتنمّر في العمل زملائه أو مرؤوسيه أو حتى رؤسائه. وتختلف أشكال التنمّر المهني فمنها المباشر الذي يتّضح من نبرة الصوت وحِدّتها إلى أن يصل للألفاظ ووقْع معانيها على الموظف. فقد يكون كالانتقاد اللاذع وذم جودة العمل، والإذلال والتخويف، وحتى بعض المزاح. كل ما سبق يمكن نقله بأشكال مختلفة كأن يكون لفظيًا مباشر أو مكتوبًا. كما يمكن للتنمر في مكان العمل أن يأتي بصيغ أخرى كأن يسرق المتنمر جهد زميل في العمل وينسبه لنفسه.

أطلعني أحد الزملاء، والذي كان مسالمًا ومحبوبًا لدى الجميع، على رسالة في هاتفه تلقاها من رئيسه المباشر يلومه على خطأ مطبعي. المشكلة لم تكن هنا، ومن الطبيعي أن يلوم الرئيس مرؤوسيه عند ارتكاب الأخطاء، ولكن “الرئيس” أسهب في الرسالة وصوّر نفسه أنه لم يعد يستطيع تحمّل أخطاء الموظف واستمر بإلقاء اللوم حتى بدأ بتلميحات مُهينة! أُرسلت هذه الرسالة للموظف في اليوم الذي يسبق بِدء إجازته السنوية. اتصل بي يروي ما حدث وهو مستاء جدًا، حاولت تلطيف الجو والضحك على الرسالة. واستشارني في كيفية الرد، طلبت منه تجاهل الرسالة لأن مرسلها رئيس مُستجد في منصبه وعلينا جميعًا أن نصبر عليه حتى يكتسب بعض الخبرة. والحقيقة كنت أريده أن يستمتع بإجازته مع عائلته، أما هذا النوع من التواصل برأيي يُفترض ألا يمر دون استيضاح وتنبيه على حدود اللياقة المهنية.

كذلك فإن إطلاق الإشاعات هو أحد أشكال التنمّر الغير مباشر والتي يَبْلغ فيها المتنمر أقصى درجات الانحطاط والجُبن، فهو لا يستطيع النيل من ضحيّته بشكل مباشر إلا بحياكة القصص وتلفيق الأكاذيب ثم نشرها في محيطه ولك أن تتخيل مدى أثر تلك الإشاعات ما إذا مسّت أخلاقيات أو خصوصيات الضحيّة، وكيف يمكن التعامل مع مثل تلك الإشاعات خاصة إذا وجدت بيئة ترسخها وتُسهم في نشرها. كما يمكن للتنمّر أن يكون بتأخير راتب أو مستحقات أو منع ترقية من استحقّها أو منع الإجازة.

وأود أن ألفت انتباه كل رب عمل، أو مسؤول عن مجموعة من الموظفين، حذارِ، فإن بداية التنمّر في محيطك لمؤشر خطير يجب مواجهته، كما أن السكوت عنه بمثابة الترحيب به. أضف لذلك، أن أقل عواقب هذه الظاهرة هو أن تخسر موظفين أكفاء لم يستطيعوا تحمّل الإساءة، وإن بقوا، فربما هم مضطرون. كما يمكن أن يتصاعد الوضع ليصبح بين يديك قضية تحرش، أو اعتداء، أو ربما جريمة لا سمح الله. كي تعمل المنشأة وتزدهر، فإنها بحاجة إلى بيئة عمل صحيّة ودودة تقوم على الاحترام المتبادل. لا أدعو القائد هنا لإزالة الكُلفة تمامًا والتراخي مع موظفيه، لكني في الوقت نفسه متأكد أنه ليس من الصفات القياديّة ما يدعو للتقليل من مكانة أحد أفراد الفريق أو إهانته بل العكس تمامًا. وتأكد أن المنشأة مهما كانت طبيعة عملها لا تحتاج للمتنمّر، فتصرفاته تُحبط الجميع وتقتل الروح المعنوية في مكان العمل مما بلا شك سيمتد أثره سريعًا على أداء المنشأة ويهدد استمراريتها.

وأخيرًا، رسالتي للمتنمّر نفسه ترفّع عن هذه التصرفات فلن تجعل منك قائدًا، ومن يخافك ليس بالضرورة يحترمك. مصيرك الوقوع في شرّ أعمالك فتصبح مخذولا.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s