أكمل بيان وزير الصحة الذي ألغى فيه حملات مكافحة التدخين بضعة أشهر ومنذ ذلك الحين لا يزال يثير لدي العديد من الأفكار الكامنة كمختص بالتسويق وكمدخن سابق.
على الرغم من انتشار هذه الظاهرة إلا أنها قلّ ما تجد ترويجاً في كثير من المجتمعات وفي مجتمعنا بالذات. فلا أذكر أي إعلان دعائي مباشر عبر أي من الوسائل الإعلامية الحديث منها أو التقليدي يدعو فيه لتجربة نكهة مُعينة أو يَذكر اسم شركة تبغ. ولكن أعداد المدخنين في ازدياد أو أنها لا تنقص على الأقل مما دعا وزارة الصحة لإيقاف حملاتها المضادة لعدم فعاليتها.
إذاً كيف تنمو هذه الصناعة رغم منع ترويجها في كل مكان؟ تتبع شركات التبغ أساليب عديدة لترويج منتجاتها. وسأتطرق هنا إلى طريقتين، أحدها مقصود ويكون بتطبيق مفهوم توظيف المنتج (Product Placement) وهو أسلوب دعائي يُضمِّن المنتج أو الخدمة المراد ترويجها في مادة درامية (فلم، مسلسل، مسرحية…) بشكل إيجابي، مما يُمكن الجمهور من الارتباط بالمنتج أو الخدمة فيبرر شراؤه فيما بعد. يحدث ذلك كأن تظهر علبة السجائر في الأفلام أو المسلسلات أو يبدأ مشهداً للبطل وهو يشعل السيجارة أو ينتهي مشهداً آخر بأخذ نفس عميق منها ومن ثَم رميها. عملية توظيف المنتج عملية إبداعية لا تنتهي في هذا المجال بل قد تستمر إلى حياة المشاهير الطبيعية وكذلك في ألعاب الفيديو.
هذه الأمثلة تدفع مقابلها شركات التبغ مبالغ طائلة. فكما أن لها دور في إثارة المدخن لتدخين المزيد إلا أن الهدف الرئيسي منها هو استقطاب غير المدخنين، والمؤسف هنا أن العديد من الدراسات أشارت إلى أن الفئة العمرية المستهدفة غالباً ما تكون في نطاق من 14 إلى 18سنة. والتي كما سمّاها أحد كبار التنفيذيين في إحدى شركات التبغ “بسوق الغَد” حيث يضيف أنهم سيشكلون الشريحة العظمى في الـ 25سنة القادمة. كما أن دراسة أخرى وجدت أن 90٪ من مدمني التدخين جربوه لأول مرة عندما كانت أعمارهم ما بين 9 و18سنة. فهذه المشاهد الترويجية تَرسم صورة ذهنية مُعيّنة للمدخن “البطل” مما يحث هذه الفئة (سريعة التأثر) لتقليده.
الطريقة الأخرى هي تحفيزٌ غير مقصود (لم تدفع شركات التبغ أجراً مقابله) ويحدث بالتعرض لمؤثرات طبيعية خلال اليوم قد تحفز مدمن التدخين لإشعال سيجارته. من أمثلة ذلك أن يشم المدخن رائحة القهوة أو يرى كوب من الشاي أو يسمع صوت القداحة (ولاعة السجائر). إضافة إلى ما ورد في الطريقة الأولى، كل هذه الأمثلة تؤثر وتستهدف المدمن على التدخين غير أن الطريقة الثانية قد لا تعني شيء لغير المدخن. يعرّف الدكتور آدي جافي، المدير التنفيذي لمركز بدائل الصحة السلوكية والمحاضر في جامعة ولاية كاليفورنيا بمدينة لونج بيتش، “أن نوبات التَوق (الرغبة الشديدة) هي ردّات فعل مُبرمجة لمحفزات طبيعية ارتبطت بتعاطي مخدرٍ ما، كما يضيف أن الدراسات التي أجريت على أشعة الدماغ لمجموعة من المدمنين أظهرت بعض النشاط أثناء استعراضهم لصور ذات علاقة بإدمانهم، كصورة غليون وصورة مسحوق أبيض ناعم لدى مستخدمي الكوكايين”.
قد نستغرب كثيراً كيف يفسّر عقل الإنسان ما يتعرّض له خلال اليوم مما يدفعه للقيام بأمر ما. فإن كنّا نعي بعض هذه المؤثرات فهناك المزيد مما نتفاعل معه لا إرادياً. أنا شخصياً كانت علامة ممنوع التدخين تُثير لدي الرغبة في التدخين أو على الأقل تُذكرني به.
عوداً لحملات مكافحة التدخين ومدى فعاليتها ليس في مكافحة التدخين بل على العكس، فبناءً على دراسة قادها الدكتور روبرت هورنيك، بروفيسور الاتصال والسياسة الصحيّة في جامعة بنسلفانيا، على حملة إعلانات وطنية في الولايات المتحدة تهدف إلى الحد من استخدام المخدرات بين المراهقين في فترة الثمانيات والتسعينات. وجد الدكتور هورنيك أن الحملة لم تساهم في الحد من تعاطي المخدرات بل إنها زادت منه وذلك لأن انتشار هذه الإعلانات جعل من استخدام المخدرات أمر عام ودارج. كثرة انتشار اللوحات التحذيرية والإعلانات التوعوية يرسل رسالة أخرى بأن هذا الزخم الإعلامي سببه أن الكثير من الناس يدخّن(لست وحيداً). وإن كان الأمر كذلك فإذاً التدخين منتشر ومقبول لدى الكثيرين على الرغم من منعه في كثير من الأماكن. فتتحول هذه الإعلانات إلى دعوة مفتوحة للانضمام أو الاستمرار على تلك العادة.
ومن هنا فإني أؤيد قرار إيقاف حملات مكافحة التدخين ولكن ذلك لا يمنع من اتخاذ تدابير أخرى ذكية لذا أود أن أختم ببعض النقاط لنا جميعاً والتي قد تساهم في مواجهة هذه الظاهرة:
ابدأ بنفسك
أنت المسؤول عن نفسك. لن تجد من هم أكثر اهتماماً بصحتك منك. يجب أن تسعى لمعرفة المزيد عما يؤثر على حياتك.
الوعي الذاتي
يجب أن تعي ما يدور حولك وما يُوجّه إليك من رسائل وتُحسن الاختيار. يصل عدد الرسائل الدعائية التي يتعرض لها الفرد يومياً في المدن الكبيرة إلى 5000 رسالة إعلانية. يجب أن تكون مسؤول عن اختياراتك.
الجهات المسؤولة
على الجهات ذات العلاقة مواكبة الابتكار والإبداع في مجالات التسويق والإعلان للتصدي ليس فقط للتبغ بل جميع المنتجات التي تمتلئ بها أرفُف المحلات التجارية ولا يقل ضررها كثيراً عن التبغ.
الحوكمة
تطبيق الإجراءات اللازمة ووضع القوانين الصارمة بذكاء (اختيار الوقت المناسب والتدرّج في تطبيقها). تصنيف الفئات العمرية والحد من استهداف الأطفال والمراهقين.
العوائد المادية
استثمار المبالغ المحصّلة من رسوم وضرائب في مراكز للبحث العلمي المتخصص لدراسة الظاهرة ولا يقتصر ذلك على الجانب الطبي والعلاجي بل حتى من الجوانب الاجتماعية والتجارية.
المسؤولية
إشراك الموردين والموزعين وتحميلهم جزء من المسؤولية ولا يقتصر ذلك على رفع قيمة الرسوم التي تنتهي بتحميلها على عاتق الأفراد.